حين تتجلى على النفس إشراقات الروح تنجلى حقائق الأشياء والأحوال، وحيثما تكون الرؤية بصيرة قبل بصر ومع بصر، تتجدد في الأشياء معانيها وفي الأحوال غاياتها.
وفي الصلاة والسجود يكون القرب، ويكون المدد والزاد لوصل دائم، ونور تستشفه الروح، وسكينة تملأ النفس؛ فتسكن لسكونها الجوارح وتأنس؛ فلا يخر العبد ساجدا ويرفع إلا وقد أضيفت إلى حياته حياة، هي على الحقيقة معنى الحياة. ومن قبل الصلاة تهيؤ لذلك الموقف الجليل "لا صلاة بغير طهور"، فحين نمسّ الماء بهذه النية يكون هذا الماء فاعلا في طهارة الباطن، حيث تتحاتّ الخطايا وتتساقط عن الجوارح لتحيا من جديد معاني الطهر والنقاء. وذلك بعض من فقه قوله تعالى: (وجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) {الأنبياء:30}، وبهذا المعنى من معاني الحياة تكون الجوارح أهلا لحركة ظاهرة بين يديه سبحانه، في صلاة هي نهر جارٍ، نغتسل فيه كل يوم إلى ما شاء الله.
وبقدر ما نستحضر من معاني الصلاة، أوقاتا، ونية، وتكبيرا، وقياما، وتلاوة، وركوعا، وسجودا، وتسبيحا، ودعاء، بقدر ما نعايش، وبقدر ما نستمد ونتزود لوصل دائم في معية الله.. هو الحياة عينها.
كذلك الحجاب
"ولا يقبل الله صلاة امرأة بغير خمار"!!
فما صلة هذا الغطاء بوقوفي بين يديه حتى يصير شرطا لقبول صلاتي ولو كنت وحدي؟!
ولمَ كان هذا الحجاب شرطا لانطلاق روح، وسكينة نفس، وطمأنينة قلب؟!.
أم هو إلماح إلى معنى أصيل في الفطرة الإنسانية، إن الأصل الستر بينما الكشف استثناء؟!
ولم لا، وقد كانت أول فتنة إبليس لآدم وزوجه في الجنة في اللباس، حتى طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.
إذن فالحياء معنى من معاني الحياة مركَّب في ذلك المخلوق المكرَّم؛ أُنزل إليه اللباس سترا، والرياش زينة، كما أُنزل له الهدى برا وتقوى، فقال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ ورِيشًا ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ). {الأعراف:26}
وينادينا ربنا: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا). {الأعراف:27} نعم والله إنها فتنته، بتغيير الفطرة سمتا هو الحياء، وهديا هو الحياة، وكلاهما من أخص خصائص الإنسان الظاهرة والباطنة؛ فكان اللباس نعمة ظاهرة لم تكن لمخلوق سوى مَن نفخ الله فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ولكونه أصيلا في الفطرة نرى الحامل تعد لباس مولودها، بينما يجهزها الله سبحانه لإرضاعه بلبنها، وكلاهما لازم لحياته ملازم لها.
الحجاب من الفطرة
والحياء لا يأتي إلا بخير، ولا ينطلق إلا من خير؛ إذ هو الفطرة، وهو شعبة من شعب الإيمان يزيد بزيادته، حتى لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وقد دخل على عائشة يوما، فرأى أسماء وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها قائلاً: "يا أسماء إن المرأة إذا ما بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا"، وأشار إلى وجهه وكفيه. فإذا كان حياء المؤمن يمنعه من النظر، فإن حياء المؤمنة يدفعها إلى ستر ما أوجب الله ستره، وانتسابها إلى الإسلام يأبى عليها تبرج الجاهلية.
وإن كان الحياء محمودًا في الرجال فهو في المرأة أحمد وأولى؛ فجمال باطن مبعثه الفطرة ومحركه الإيمان ينعكس على الظاهر، حتى لقد قيل: "جمال المرأة في حيائها"، ولا يجحد ذلك إلا مطموس الفطرة، مأفون العقل، مفتون القلب.
وانطلاقا من هذا المعنى الأصيل للِّباس خاطب الله سبحانه وتعالى النساء مستصحبا ما فُطرن عليه، فلم يقل: وليتخذن خمارا، ولكن قال: (ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)، وجعل الستر الأصل والإبداء الاستثناء، فقال: (ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)، وقال: (ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ..)، وبخلاف ما استُثني في الآية يبقى الأمر على الأصل وهو الستر، وكان أول ما بدأ الله سبحانه الاستثناء بالأزواج؛ حيث يكون الإبداء على إطلاقه. وليس هذا معنى مخالفا للفطرة ولا نقيضا لها، بل هو أصيل فيها بقوله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ)، ثم يأتي ذكر المحارم بعد الزوج على ما يقتضيه الأدب ورفع الحرج، حتى فيما بين النساء بعضهن بعضا.
وبمزيد تأمل ندرك من آداب الاستئذان سر إطلاق لفظ العورات على الأوقات التي نتخفف فيها من الثياب، حيث قال تعالى: (مِّن قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ ومِن بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ ولا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ)، فيا له من إعجاز أوجز أقوى المعاني وأعلاها!!.
والمرأة المسلمة في الصلاة كما في غيرها، مَحياها في ظل ربوبية الموحي، وجمال الوحي، وربانية المتلقي؛ حيث التخلية عن علائق الشهوات وعوائق الشبهات، والتحلية بكل أرقى وأروق، وبهدي من البصيرة باطنا، والبصر ظاهرا ينصلح الظاهر والباطن معا، فيُرى الحق حقا والباطل باطلا، ثم يكون الحق محبوبا والباطل بغيضا، ولا يكون حينذاك إلا اتباع الحق واجتناب الباطل (والَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)؛ فتكون حلاوة الإيمان بعد ذوق لمعاني الطاعات بمعية الله، ليس في الحجاب وحسب، وإنما في كل ما أرشد إليه الله وأمر، وما نهى عنه وزجر، وحينها فقط تنجلي في الأشياء معانيها وفي الأحوال غاياتها، وفي الحجاب يتجلى معنى التكريم، وإن رآه البعض إهانة!! والحرية وإن رآه البعض قيدا!! وحضارة الإنسان وإن رآه البعض تخلفا!! والرقي وإن رآه البعض انحطاطا!! ومعنى الحياة وإن رآه البعض كفنا لا يصلح إلا للموتى!!.
فإن تعجب فاعجب لمن تأباه!! ثم لا يفوتك العجب ممن لا ترتديه إلا في الصلاة!! وأعجب من ذلك كله من لا ترتديه إلا كفنا، ولات حين مناص، ثم لا مثوبة
والسموحة